الــــغــــــــيـــــــــــــــر
تقديم : إن تحليلا أوليا لمشاعر الإنسان المختلفة يقودنا إلى اكتشاف أن الأنا لا يستطيع أن يعيش منعزلا عن الأنا الأخر، فهذا الأخير هو الأساس في إحداث هذه المشاعر وتركيبها النفسي لدى الفرد، بل بإمكاننا أن نذهب أبعد من هذا فنقول أن وجود الأنا رهين بوجود الغير، فأفكارنا وممارساتنا بل وحتى لغتنا لاتأخد دلالتها ولا تؤدي وظائفها الرمزية إلا من خلال انخراطنا في علاقات متعددة ومتشعبة مع الأخرين. إن الغير اذن هو ضرورة انطولوجية ومعرفية...، لكن مع ذلك قد يتحول هذا الأخير في بعض الأحيان إلى مشكلة حقيقية تهدد وجود الأنا وتقيد حريته من هنا لابد من إخضاع هذه العلاقة المركبة الى فحص فلسفي لعلنا نستطيع الكشف عن بعض جوانبها.
الطرح الإشكالي : الغير هو الأخر البشري المخالف فهو انا اخر مختلف عني، والغير يتحدد بالقياس الى طرف مقابل له هو الانا. فالغير مختلف واخر بالنسبة للأنا وفي هذا الصدد يقول "سارتر":
" الغير هو الأنا الذي ليس أنا " ويعني أنه أنا أخر مخالف لي، ولكن هذا غير كاف لتحديد هذا المفهوم لأن الغير إذا كان أخر بالنسبة لي فانه كذلك شبيهي ونظيري في نفس الوقت، من هنا نتساءل :
هل الغير أنا أخر؟ وهل وجوده ضروري لوجود الأنا ؟ هل معرفة الغير ممكنة أم مستحيلة؟ هل العلاقة مع الغير هي علاقة تكامل، صداقة أم صراع وتنافر؟ المحور الأول: وجود الغير اشكال المحور : هل الغير أنا أخر ؟ وهل وجوده ضروري لوجود الأنا؟ · موقف ديكارت: يجعل
"ديكارت" من الأنا أفكر الحقيقة الأولى التي تصل إليها ذات واعية بمفردها فالوعي بالذات لايتم عبر الأخر ولذلك فالكوجيطو الديكارتي كحصيلة لتجربة الشك يضع الأنا في مقابل العالم والأخرين فوجود الذات المفكرة مستقل تماما عن وجود الغير بل ان وجود الذوات الواعية الأخرى يتوقف على حكم العقل واستدلاله، فوجود الأنا أفكر هو وحده اليقيني أما الغير فما هو إلا نتيجة استدلال منطقي عقلي وبالتالي فوجوده قابل للشك.
نلاحظ أن فلسفة
"ديكارت" هاته
فلسفة ذاتية مغرقة في التجريد ولذلك فهي تنتهي إلى القول بوحدانية الذات يقول
ديكارت:
" الفكرهو الصفة التي تخصني، وهو وحده لا ينفصل عني أنا كائن وانا موجود هذا أمر يقيني ولكن إلى متى؟ أنا موجود مادمت أفكر فقد يحصل أني متى انقطعت عن التفكير تماما انقطعت عن الوجود أيضا " . · موقف جان بول سارتر:
يرى
"سارتر" أن الغير ليس شيئا كالطاولة التي هي شيء من أشياء العالم بل هو وجود انا أخر فالغير لايوجد الا كأنا أخر أي كأنا مشابه ومماثل لأناي، إلا أنه مستقل عنه، لكن وجود الغير هو كذلك نفي للأنا
فالعلاقة التي تربطني بالغير هي علاقة صراع حيث كل طرف يريد ممارسة حريته ويجعل من الأخر موضوعا متشيئا وعليه فحتى القيم والعواطف التي تبدو للناس نبيلة هي ليست كذلك، إن الحب مثلا رغم طابعه النبيل الذي يتمظهر من خلاله فهو في الحقيقة تملك يسيطر من خلاله المحب على حرية المحبوب، ونفس الأمر يمكن قوله بالنسبة لقيمة التعاطف، الصداقة والتعاون... كل العلاقات بين الذات والغير تقوم اذن على الإمتلاك والتشيء وإلغاء الحرية. ويقدم
" سارتر" امثلة لذلك منها
مثال النظرة فحين يكون إنسان ما وحده فإنه يتصرف بعفوية وتلقائية وحرية دون قيد وما ان ينتبه ان احد يراقبه حتى تتجمد افعاله وحركاته وتفقد عفويتها وتلقائيتها ولعل هذا ما تعبر عنه عبارة
سارتــر :"
الجحيم هم الأخرون" خلاصة تركيبية: إذا كانت
الفلسفة الديكارتية تؤكد على أن الشيء الذي نكون متيقنين من وجوده هو الأنا أما وجود الغير أو الأنا الأخر فهو افتراض استدلالي قابل للشك محتمل وجائز، فإن
سارتر يرى أن وجود الغير ضروري لوجود الأنا ومكون له وليس مجرد وجود جائز كان يمكن أن لايكون يقول
سارتر في هذا الصدد :
" لكي أتوصل إلى حقيقة كيفما كانت حول ذاتي لابد لي أن أمر عبر الغير (الأخر)" إن الأخر لاغنى عنه لوجودي كما لا غنى لي عنه في معرفتي بنفسي، لكن السؤال الذي يبقى مطروح :
اذا كان الغير موجودا كأنا أخر فهل معرفته ممكنة أم مستحيلة؟