السؤال : على أي أساس تقوم علاقة الأنا بالغير؟ أبانت مختلف الدراسات الأنثروبولوجية ، السوسيولوجية والسيكو- سوسيولوجية على أن الإنسان يكتسب كل مقومات وجوده وإنسانيته من خلال المجتمع، وهي الحقيقة التي كشفت عنها منذ مئات السنين الفلسفة الإغريقية وبعدها الإسلامية وعبر عنها المفكر والمؤرخ العربي "
ابن خلدون" في كتابه"
المقدمة " بقوله :
" إن الاجتماع البشري ضروري لحفظ النوع الإنساني " هكذا إذن يتضح أن وجود الغير ضروري لوجود الأنا ،لكن الإشكال الذي يبقى مطروح هو:
أية علاقة يمكن أن تنسج بينهما هل هي علاقة صراع ، نفور وإقصاء.... تنتفي معها كل المظاهر الإيجابية من تسامح، حوار وغيرية.... ؟ أم هي علاقة صداقة واحترام؟ تجدر الإشارة منذ الوهلة الأولى على أنه من الصعب إن لم نقل من المستحيل حصر العلاقة بين الأنا والغير في قالب واحد (الصداقة أو الصراع) ، بل إن العلاقة بينهما تتخذ مظاهر متعددة مختلفة (حب/كراهية ، صداقة/عداء ، بعد/قرب ، إقصاء/اعتراف...)، إن هذا التعدد الذي يطبع التجربة الإنسانية تفرضه عوامل عدة منها ماهو ذاتي يرتبط بالفرد ومنها ما هو خارجي يتعلق بالمجتمع واكراهاته. عموما قبل الخوض في معالجة هذا الإشكال يتعين علينا الوقوف عند المفاهيم المؤطرة له وهي: الأنا ويقصد بهذا المفهوم تلك الذات الواعية التي تتسم بمجموعة من الخصائص منها: الحرية، الإرادة، المسؤولية، القدرة على التمييز..... إن الحديث عن الأنا يستوجب بالضرورة الحديث عن الغير وعن طبيعة العلاقة القائمة بينهما فالغير كما يعرفه الوجودي سارتر (1905-1980) هو :" الأنا الذي ليس أنا " . إن تموضع الأنا والغير في إطار المجتمع يدفع بالضرورة الى نسج علاقات مختلفة ومتنوعة يأطرها هذا الأخير،يقننها ويرسم حدودها، هذه العلاقات تمليها أحيانا الضرورة (البيولوجية، النفسية...) وأحيانا أخرى تمليها اعتبارات شخصية متعددة ومختلفة، وبغض النظر عن هذه الاعتبارات يبقى وجود الغير ضروري لوجود الأنا يقول
" ميشيل تورنيي" في هذا الإطار :
" إن الحصن الأكثر أمانا ضد الوهم البصري وضد الإستيهامات وضد حلم اليقظة والهذيان و الاضطراب السمعي هو الغير" إن الغير إذن من خلال حضوره يسهم بشكل قوي في تأسيس معرفتي لذاتي واكتسابي لمقومات وجودي وانسا نيتي يقول
"سارتر" : " إن الغير هو الوسيط الذي لاغنى عنه بيني وبين نفسي" إن هذا التأثير الذي يمارسه الغير تتجلى ملامحه الإيجابية حينما تكون الرابطة التي تربطني به هي رابطة الحب والصداقة فالحب كما اعتبرته
" حنا ارندت " هو
: وحده القادر على الصفح مادام وحده يعرف تمام المعرفة كيف يفتح ذراعيه للشخص الى حد الاستعداد الدائم للصفح عما بدر منه" إن الحب ومن خلال ما يترتب عنه من صفح، تسامح واحترام يفضي الى تقدير الشخص من حيث هو ذات إنسانية تمتلك الكرامة مما يستوجب التعامل معها كغاية وليس كوسيلة، إن هذا الحب الذي كثيرا ما نجده حاضرا في العلاقات الإنسانية يتجسد أحيانا في الصداقة هذه الأخيرة التي اعتبرها اليوناني
" أرسطو " تعاطف أو تضامن بين شخصين وهي تشمل بمعناها الواسع كل الروابط الاجتماعية من روابط الأسرة إلى رابطة المدينة إلى رابطة الإنسانية وهي ضرورية لايمكن الاستغناء عنها يقول
" أرسطو " في هذا الباب:
" إن الصداقة ضرورية للحياة فبغير الأصدقاء لا أحد يريد العيش حتى ولو كان ينعم بجميع الخيرات الأخرى" لكن بالرغم من اعترافه بقيمة الصداقة إلا أنه ميز في إطارها بين ثلاثة أنواع وهي
: صداقة اللذة، صداقة المنفعة وصداقة الفضيلة ففي النوعين الأول والثاني يحب الإنسان ما يحققه من منفعة أو لذة وليس شخص الصديق فالصداقات من هذا القبيل دنيئة واهية تنقضي بانقضاء الحاجة وبهذا فهي دائمة التقلب، أما صداقة الفضيلة فهي الكاملة الباقية ما دامت تقوم على بذل الجهد وتبادل المحبة والسعي الدائم لتحقيق الخير لذاته وليس لغاية ما ولهذا لو أمكن قيامها بين الناس لما احتاج هؤلاء الى العدالة والقوانين.
إن الصداقة إذن
تأسيسا على ما سبق ينبغي أن تقوم على الفضيلة أي على أسس أخلاقية منزهة عن أية منفعة أولذة وهو الطرح الذي دافع عنه الفيلسوف الألماني
" كانط " في كتابه
"ميتافيزيقا الأخلاق" حين قال : "
لايجب أن تقوم الصداقة على منافع مباشرة ومتبادلة بل يجب أن تقوم على أساس أخلاقي خالص ". إلا أن هذه العلاقة التي اكتست طابعا خاصا في فكر العديد من الفلاسفة منذ اللحظة اليونانية الى اليوم ( أفلاطون، أرسطو، كانط...) قد تقف في طريقها العديد من العوائق التي تشل فاعليتها و تحولها الى علاقة عداء ،نفوروتشييء خصوصا حينما تنعدم روح التواصل بين أطرافها، من هذا المنطلق أكد الفيلسوف الفرنسي
" موريس ميرولوبنتي" أن علاقة الأنا بالغير لا تتخذ طابعا تشييئيا إلا إذا انسحب كل منا وقبع داخل طبيعته المفكرة وأضحت نظرته للأخر لاانسانية حيث بدل أن تقبل أفعال الغير وتفهم تخضع للملاحظة مثل أفعال حشرة من هنا يبقى التواصل وما يرافقه من تعاطف ،تقبل وتفهم هو السبيل لمعرفة الغير شريطة أن يقوم هذا التواصل على الاعتراف المتبادل لكل منهما بفرديته ووعيه إن التواصل إذن يظل ممكنا بين الذات والذوات الأخرى رغم وجود بعض العوامل التي تعلقه لكن لاتعدمه بهذا المعنى يمكن القول أن
ميرولوبنتي قدم تصورا متميزا فيما يخص علاقة الانا بالغير تصور يقوم على أساس التواصل والتفاعل والمشاركة الحية بدل النظر إليه من زاوية العقل القائم على التجريد والتقسيم فالعالم ليس هو ما أفكر فيه لكن هو ما أعيشه.
إن هذا التواصل الذي أكد
"ميرولوبنتي" على قيمته الأخلاقية والاجتماعية والمتمثلة في تقريب المسافة بين الأنا والغير يفضي إلى محو كل أشكال الصراع والعداء ومن ثم خلق روح الغيرية التي يمكن اعتبارها كما أكد على ذلك " أوغست كونت" جوهر الأخلاق الإنسانية مادامت تسعى إلى تثبيت مشاعر التعاطف والمحبة بين الناس وكذلك تهذيب الغريزة البشرية وكبح وتسييج ميولات الفرد الشخصية والأنانية
،لكن هل يمكن اختزال علاقة الأنا بالغير في هذا البعد الإيجابي الأخلاقي الذي يقوم على أساس الصداقة، التواصل الغيرية.... ألا يمكن أن تزيغ هذه العلاقة تحت اكراهات مختلفة عن منحاها الإيجابي وتتحول الى علاقة عداء وصراع؟ يكشف استقراء تاريخ الفلسفة من جهة وإلقاء نظرة بانورامية على تاريخ البشرية من جهة ثانية أن العلاقة بين الذوات الإنسانية ظلت تتأرجح عبر التاريخ بين ما هو ايجابي تجسده الصداقة ، المحبة... وبين ماهو سلبي يتمظهر من خلال الصراع و العنف.... ولهذا لم يكن غريبا أن نجد في حقل الفلسفة من تحدث بإسهاب عن هذا البعد السلبي الذي كثيرا ما هيمن على العلاقات الإنسانية وفي هذا السياق أكد الفيلسوف الوجودي
" جان بول سارتر" أن العلاقة بين الأنا والغير علاقة صراع حيث يسعى كل طرف إلى تشييء الأخر- أي تحويله إلى مجرد موضوع - إن هذه العلاقة المتوترة بينهما تطرح إشكالا اجتماعيا وأزمة تواصل مادمت أنظر إلى الطرف الأخر كموضوع فاقد لكل مقومات الوجود الإنساني من حرية وعي وإرادة... لذا يصبح الأخر في تصور "سارتر" مصدر خطر مادام وجوده يعني لحظة النفي الأول للذات مما يولد علاقة متوترة معه وأحيانا علاقة يهيمن عليها طابع الصراع فالتعامل معه والاتجاه إليه عبارة عن فعل تغيب فيه كل معاني الإنسانية من حب ، احترام... فالهدف من هذه العلاقة هو معرفة الآخر وليس التعرف والتعارف معه مادام غير مؤهل لإقامة تواصل فعلي معي وبهذا المعنى يصبح
" الآخرون هم الجحيم" كما عبر عن ذلك
سارتر.